الحمد لله القائل: ﴿ وَقُلِ اعْمَلُوا فَسَيَرَى اللَّهُ عَمَلَكُمْ وَرَسُولُهُ وَالْمُؤْمِنُونَ ﴾ [التوبة: 105]. والصلاة والسلام على من قال: ((مَن أمسى كالاًّ من عمل يده، أمسى مغفورًا له))، والقائل: ((ما أكل أحد طعامًا قط خير من أن يأكل من عمل يده)).
فالكسب اليدوي أفضل الرزق وأطيبه، وديننا الحنيف هو دين العمل؛ فقد حثَّنا على الجد والنشاط، والإتقان والإبداع، وحذَّرنا من الكسل والتهاون والجمود، ودلَّنا على الصفات الحميدة التي ينبغي على كل مسلم التحلي بها، ومن أبرزها الأمانة والصدق، فبهما يحوز المرء المنزلة الرفيعة يوم القيامة؛ قال: ((التاجر الصَّدوق الأمين مع النبيين والصديقين والشهداء))، أما في الدنيا، فاليد العاملة هي العليا المنفقة، وفيها يقول: ((اليد العليا خير من اليد السفلى))، وللعمل أخلاق وآداب تُزينه، وسراج هذه الأخلاق الأمانة، وهي خلق ثابت في النفس يبعث على حب الحق وإيثاره، فيعف به الإنسان عما ليس له به حق، ويؤدي به ما عليه أو لديه من الحقوق، فهي من مكارم الأخلاق، وقد بيَّن الله تعالى عِظم الأمانة وجهل الإنسان بها، فقال – عز من قائل -: ﴿ إنَّا عَرَضْنَا الْأَمَانَةَ عَلَى السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَالْجِبَالِ فَأَبَيْنَ أَنْ يَحْمِلْنَهَا وَأَشْفَقْنَ مِنْهَا وَحَمَلَهَا الْإِنْسَانُ إِنَّهُ كَانَ ظَلُومًا جَهُولًا ﴾ [الأحزاب: 72].
وكان رسولنا محمد – صلى الله عليه وسلم – يلقَّب بالأمين، ووصف الله سيدنا موسى بالأمانة في قوله تعالى: ﴿ إِنَّ خَيْرَ مَنِ اسْتَأْجَرْتَ الْقَوِيُّ الْأَمِينُ ﴾ [القصص: 26].
كما وصف المؤمنين المفلحين بقوله: ﴿ وَالَّذِينَ هُمْ لِأَمَانَاتِهِمْ وَعَهْدِهِمْ رَاعُونَ ﴾ [المؤمنون: 8]؛ لذا فقد أمر الله بها، فقال: ﴿ إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُكُمْ أَنْ تُؤَدُّوا الْأَمَانَاتِ إِلَى أَهْلِهَا وَإِذَا حَكَمْتُمْ بَيْنَ النَّاسِ أَنْ تَحْكُمُوا بِالْعَدْلِ ﴾ [النساء: 58].
وأوضَح – صلوات ربي وسلامه عليه – علاقة الأمانة بالإيمان، فقال: ((لا إيمان لمن لا أمانة له، ولا دين لمن لا عهْد له)).
كما بيَّن – صلوات الله وسلامه عليه – أنْ لا عذر للعمل بضدها، فقال: ((أدِّ الأمانة إلى من ائتمنَك، ولا تخن مَن خانك)).
فالخيانة والغدر من الصفات الخسيسة التي لا تليق بالمؤمن، فإذا كان رد الخيانة بمثلها لا يجوز، فكيف بمن يفعلها ابتداءً؟!
فهذه الصفات عواقبها وخيمة في الدنيا والآخرة؛ قال الرسول – مبينًا حال الغادر يوم القيامة -: ((لكل غادر لواء يوم القيامة، يقال: هذه غدرة فلان…))، وصدق الله إذ يقول: ﴿ وَمَنْ يَغْلُلْ يَأْتِ بِمَا غَلَّ يَوْمَ الْقِيَامَةِ ثُمَّ تُوَفَّى كُلُّ نَفْسٍ مَا كَسَبَتْ وَهُمْ لَا يُظْلَمُونَ ﴾ [آل عمران: 161].
وكثير من الناس يشتبه عليه الأمر في مفهوم الأمانة، أو يقصرها على جانب من جوانبها الكثيرة، فيقع في المحظور؛ كالذي يعتقد أن الأمانة عدم أخذ المال بغير وجه حق كالاختلاس والسرقة فقط، وأن الخيانة لا تتعدى ذلك البتة، ويغفل عن قوله: ((مَن رأى منكم منكرًا، فليغيره بيده، فإن لم يستطع فبلسانه، فإن لم يستطع فبقلبه، وذلك أضعف الإيمان)).
فإنكار المنكر بدرجاته الثلاث من الأمانة، فمثلاً رؤية الموظف المسيء في عمله والسكوت عليه، إخلال بالأمانة، ومساهمة في الخيانة بشكل غير مباشر، وكذلك من لا يرد المعتدي عن عدوانه والظالم عن ظلمه، والمخطئ عن خطئه، بحجة أنه قد يتسبب في قطع رزقه، ويغفل المسكين أنه والحالة هذه يكون مشتركًا في الإثم، ومعينًا عليه، ومُخِلاًّ بالأمانة، وظالمًا لصاحب الحق، فالمعتدى عليه وإن خسِر في الحياة الدنيا بأي شكل من الأشكال، فإنه لا محالة آخِذٌ حقه يوم القيامة؛ ففي الحديث الشريف: ((يؤتَى بالعبد يوم القيامة وإن قُتل في سبيل الله، فيقال: أدِّ أمانتك، فيقول: أي رب، كيف وقد ذهبت الدنيا، فيقال: انطلقوا به إلى الهاوية)).
فلا بد للعاقل أن يتفكر في حال المقاتل في سبيل الله، وكيف إذا أخل بجانب من جوانب الأمانة، لم يشفع له جهاده من ورود النار؟ لذا نجد النبي – عليه الصلاة والسلام – يحثنا على التناصح والتناصر، فيقول: ((انصر أخاك ظالمًا أو مظلومًا… الحديث)).
ويبيِّن كيفية نُصرته في حال ظلمه بالأخذ على يده وكفِّه عن ظلم الآخرين ونصرته، بإبعاد أسباب العقاب الدنيوي والأخروي عنه، فعند رد المخل بالأمانة عن ذلك بنصحه أو الأخذ على يده، أو بإحالة الأمر لصاحب الحق، أو لمن هو قادر على التصحيح بذلك تتحقق نُصرته على نفسه ومساعدته على الاستقامة، فعلى كل مسلم يرى أخاه يمكر بغيره أو يفسد ويسيء لعمله، أن يسارع للحيلولة دون ذلك، وأن يضع نفسه مكان صاحب العمل، ويرى هل يرضى أن يؤخذ جزءًا يسيرًا من أجره دون رضاه وبدون وجه حق، بالطبع لا.
ولتكتمل الأعمال دون خللٍ علينا إدراك مفهوم الأمانة بمعناها الواسع، وذلك في كل أمر – سواء أوكل إلينا، أو لوحظ دون تكليف – والسعي لإعطاء كل ذي حق حقه، واستشعار المسؤولية تجاه الخالق والنفس والمجتمع، فقد جاء في الحديث: ((كلكم راعٍ وكلكم مسؤول عن رعيته، الإمام راع ومسؤول عن رعيته، والرجل راع في أهله وهو مسؤول عن رعيته، والمرأة راعية في بيت زوجها ومسؤولة عن رعيتها، والخادم راع في مال سيده ومسؤول عن رعيته، وكلكم راع وكلكم مسؤول عن رعيته)).
وقد حُصِر مفهوم الأمانة في هذه الأيام في معاني ضيقة، لا تمثل سوى جوانب يسيرة من الأمانة؛ كرد الودائع لأصحابها، أو عدْم أخذ المال بالاختلاس أو السرقة كما مر سابقًا، وهذه الأمور كما أسلفنا من الأمانة لا ريب، ولكن هناك جوانب من الأمانة يغفل عنها الكثير، منها على سبيل المثال لا الحصر: من يوقع أو يختم كرت زميله الذي لم يحضر للعمل في الوقت المحدد، أو يرى زميلاً له يقوم بذلك دون ردْعه، فقد ضيَّع الأمانة، أو أن يعمل بجانب عمله الأصلي أعمالاً أخرى، أو معرفة من يفعل ذلك والسكوت عنه، فقد أخلَّ بالأمانة؛ لأن الساكت عن الحق شيطان أخرس، كذلك استخدام المعدات والأجهزة، أو المراكب، أو المنشآت في غير ما خصصت له، دون أخذ إذن بذلك من صاحب الحق، أو معرفة من يفعل ذلك والسكوت عنه، إخلال بالأمانة.
وإفشاء أسرار العمل – سواء بقصد، أو بغير قصد – من الخيانة؛ لِما جاء في الحديث: ((إذا حدث الرجل الحديث ثم التفت، فهي أمانة)).
كذلك من الخيانة اختلاق الأعذار للتغيُّب عن العمل مع القدرة عليه، أو الاستئذان دون الحاجة الحقيقية لذلك، أو مخالفة شروط العقد، وتبرير ذلك للنفس بمسوغات غير مقبولة شرعًا، ناسيًا أو متناسيًا أن العقد شريعة المتعاقدين.
ومن الإخلال بالأمانة الإهمال في العمل، وعدم إتقانه؛ فقد جاء في الحديث: ((إن الله يحب إذا عمل أحدكم عملاً أن يتقنه)).
ومثل هذه الأمور التي يتساهل فيها الناس كثيرة جدًّا، ضابطها قوله: ((إن الحلال بيِّن، وإن الحرام بيِّن، وبينهما مشتبهات لا يعلمهنَّ كثير من الناس، فمن اتقى الشبهات، استبرأ لدينه وعرضه، ومن وقع في الشبهات وقع في الحرام، كالراعي يرعى حول الحمى يوشك أن يرتع فيه)).
فالمسلم ينبغي عليه أن يكون ذا ضمير حي، يراقب الله في كل أفعاله وأعماله، وينصح لمن حوله؛ حتى لا يكون ممن قال الله فيهم: ﴿ وَقِفُوهُمْ إِنَّهُمْ مَسْؤولُونَ * مَا لَكُمْ لَا تَنَاصَرُونَ ﴾ [الصافات: 24- 25].
وليعلم المسلم أن إرادة وجه الله في إخلاص العمل واجبة، وعقد النية على ذلك يقلب الأعمال المعتادة إلى عبادة يؤجر عليها الإنسان، وأن حصول الإنسان على أجر دنيوي لا يعني حرمانه من ثواب الآخرة إذا أخلص النية؛ فقد جاء في الحديث النبوي: ((إنما الأعمال بالنيات، وإنما لكل امرئ ما نوى … الحديث)).
فمراقبة المسلم لربه أثناء ساعات عمله، واستشعاره بأن الله مُطلع على كل صغيرة وكبيرة؛ كما قال تعالى: ﴿ فَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ خَيْرًا يَرَهُ * وَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ شَرًّا يَرَهُ ﴾ [الزلزلة: 7، 8].
واستحضر قوله تعالى: ﴿ يَعْلَمُ خَائِنَةَ الْأَعْيُنِ وَمَا تُخْفِي الصُّدُورُ ﴾ [غافر: 19].
كان ذلك دافعًا له على الإخلاص في عمله، وأن يبتغي به وجه الله تعالى؛ مما يجعل هذه الساعات عبادة ومراقبة لله – عز وجل.
وهنا تحصل له السعادة والمتعة في الدنيا، والأجر الجزيل في الآخرة، مستبشرًا بقول الله – عز وجل -: ﴿ إِنَّا لَا نُضِيعُ أَجْرَ مَنْ أَحْسَنَ عَمَلًا ﴾ [الكهف: 30]، وقول النبي -صلى الله عليه وسلم-: ((العامل إذا استعمل فأخذ الحق وأعطى الحق، لم يزل كالمجاهد في سبيل الله حتى يرجع إلى بيته)).
فالأمانة بمعناها الواسع تخلق لدى الإنسان رقابة ذاتية وضميرًا حيًّا، لا يحتاج معهما إلى رقيب. ولله دَرُّ القائل:
إذا خلوت الدهر يوماً فلا تقل:
خلوتُ ولكن قلْ: عليّ رقيبُ
فهذا معاذ بن جبل – رضي الله عنه – عند عودته من اليمن، يسأله عمر بن الخطاب – رضي الله عنه – فيقول: ما عندك من مال أحاسبك، فقال معاذ – رضي الله عنه -: والله ما أخذت هذا المال إلا متاجرة، وما أخذته من أموال المسلمين، فتركه عمر – رضي الله عنه – فنام معاذ – رضي الله عنه – فرأى في منامه في تلك الليلة أنه يهوي إلى نار عميقة، وأن عمر يسحبه من ثيابه من شفا حفرة من النار، فذهب معاذ في الصباح، وقال له: أحسنت، أصاب الله بك الخير، وأخبره بالمنام، فقال عمر – رضي الله عنه -: هيا بنا للخليفة، فإن أحلك فهنيئًا مريئًا، فذهبا لأبي بكر الصديق – رضي الله عنه – فأخبراه الخبر، فقال له أبو بكر – رضي الله عنه – حلت لك هذه هنيئًا مريئًا.
ومثله قصة الصحابي الذي كفل رجلاً بدم في عهد عمر – رضي الله عنه – فعاد المكفول رغم استطاعته الهرب وعدم العودة، فبمثل هذه القصص تتجلى الرقابة الذاتية، والذي دعاني لطرق هذا الموضوع المفهوم الخاطئ والمحدود للأمانة لدى كثير من الناس، ومحاولة بيان الأمانة بمعناها الشامل، وبيان أن من معاني الأمانة القناعة والرضا بما كتب الله من رزقٍ؛ قال: ((انظروا إلى من هو أسفل منكم، ولا تنظروا إلى من هو فوقكم؛ فإنه أجدر ألا تَزدروا نعمة الله)).
ومن الأمانة أكل الحلال واجتناب ما سواه، ومن الأمانة الصبر على ضيق العيش؛ قال تعالى: ﴿إِنَّمَا يُوَفَّى الصَّابِرُونَ أَجْرَهُمْ بِغَيْرِ حِسَابٍ﴾ [الزمر: 10].
ومن الأمانة الوصول إلى درجة الرقابة الذاتية، فالأمانة لا تكون في جانب دون جانب، أو مال دون مال، بل هي مع الصغير والكبير، والغني والفقير، والحاكم والمحكوم، وعمومًا فالأمانة بمفهومها الواسع هي الدين كله؛ يدل على ذلك ما جاء في الحديث الشريف: ((إن لربك عليك حقًّا، ولنفسك عليك حقًّا، ولأهلك عليك حقًّا؛ فأعطِ كلَّ ذي حقٍّ حقَّه)).
وتضييع شيء من ذلك هو الخيانة التي حذرنا الله منها في قوله: ﴿ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَخُونُوا اللَّهَ وَالرَّسُولَ وَتَخُونُوا أَمَانَاتِكُمْ وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ ﴾ [الأنفال: 27].