يمكن القول بحق: إنَّ الملك عبدالعزيز كان رفيقًا بالناس عامَّة، وبرعيته خاصَّة؛ فإنه لم يحتجب عنهم أميرًا ولا سلطانًا ولا مَلِكًا؛ بل كان يؤكد المرة تلو الأخرى أنه للجميع ومن الجميع، وأنه لا يبخل على أحد بما يستطيع من رعاية أو عون؛ فيدعو الناس أن يأتوا مجلسه، وأن يضعوا بين يديه متاعبهم، وأن يَصْدُقُوهُ الشكوى في مظالمهم، وظلَّ يردد هذا المعنى في خطاباته، كما ردده في بلاغات رسمية كان يُصْدرها بين الحين والآخر، منها على سبيل المثال قوله: “إن من كانت له مظلمة على كائن من كان؛ موظفًا أو غيره، كبيرًا أو صغيرًا، ثم يخفي ظلامته؛ فإنما إثمه على نفسه”.
لقد كانت علاقته بالرعية قائمة على النصح والتناصح في المقام الأول، ثم أرساها بعدُ على أسس منها: الإحسان والعدل، والتواضع والرحمة.
هذه الأسس التي سار عليها الملك عبدالعزيز تُعَدُّ منهجًا ثابتًا للعلاقة بين الراعي والرعية، وقد حدد الملك عبدالعزيز ملامح هذه العلاقة وثوابتها في مجالي الحقوق والواجبات، تحديدًا دقيقًا وواضحًا في البلاغ العام الذي أصدره بجدة في 8 جمادى الآخرة عام 1344/25 ديسمبر 1925، بقوله:
” إن لكم علينا حقوقًا، وإن لنا عليكم حقوقًا؛ فمن حقوقكم علينا: النصح لكم في الباطن والظاهر، واحترام دمائكم وأعراضكم وأموالكم؛ إلا بحق الشريعة، وحقنا عليكم: المناصحة، والمسلم مرآة أخيه؛ فمن رأى منكم منكرًا في أمر دِينه أو دُنياه فليناصحنا فيه؛ فإن كان في الدين فالمرجع إلى كتاب الله وسُنَّة رسوله – صلى الله عليه وسلم -، وإن كان في أمر الدنيا فالعدل مبذول – إن شاء الله – للجميع على السواء”.
وحيث إن الملك عبدالعزيز كان حريصًا الحرص كلَّه على مراعاة أحوال رعيته، فلا عجب أن نجد كلامه مطابقًا لمقتضى الحال؛ فهو لم يخاطب البَدْو بلغة الحَضَر، ولا الحضر بلغة البدو؛ بل عرف كيف يخاطب رعيته كلًا بما يناسبه، والشاهد على ذلك: ما فعله مع رؤساء القبائل عندما أراد أن يؤسس مجلس الشورى؛ حيث خاطبهم بلغتهم التي هي أقرب الطرق لإقناعهم، فبادرهم قائلًا: إذا شرد القَعُودُ هل يستطيع أحد أن يدركه فيمسك به شخص واحد؟ أجابوا: لا يا عبدالعزيز، لابد من اثنين أو ثلاثة أو أكثر لنمسك به، قال لهم: كذلك الرأي، كلما اجتمع رأيان أو ثلاثة أو أكثر، تمَّت الشورى بمعناها الشرعي.
• وهذا موقف آخر يؤكد ما تقدم؛ فعندما طال حصار جدَة على غير المتوقع، ضاقت صدور الرجال حين قلَّت المؤن، فنظر الملك عبدالعزيز إلى من حوله وأعلمهم بأن المؤن متوافرة في نَجْد، غير أن الجِمَال مشيها وَئيدٌ، فمن شاء منكم الرحيل فليرحل، أما أنا فمقيم، والفرج من عند الله.
تأمَّل! كيف أن رأفة الملك عبدالعزيز بمن معه لم تكن رفقًا بهم فحسب، لكنها رأفة لم تصحبها مِـنَّة، بل إنه ساق لهم العذر مُقدَّمًا؛ بالرغم من حاجته إليهم؛ ليطيِّب خواطرهم فيما لو اختاروا الرحيل.
لقد كان – رحمه الله – عظيم الرفق بالرعية؛ وها هو حفيده الأمير عبدالله الفيصل يحدثنا عن هذا الجانب قائلاً: “تشرفت بمصاحبته مرة في رمضان من قصر الديرة إلى المربَّع، وكان ثمَّة عُمَّال يقومون ببعض الترميمات، فوقف وسأل عن رئيسهم، فاستُدْعِيَ له فسأله عن مواعيد عملهم؟ فقال: نبدأ العمل من الساعة الثانية صباحًا حتى الساعة الثامنة بالتوقيت الغروبي – أي: من الساعة الثامنة صباحًا حتى الثانية ظهرًا بالتوقيت الزوالي- فتعجب الملك، وقال: أنا لا أعمل بيدي وأستعمل السيارة في ذهابي لقصر الحكم وعودتي منه، ولا أمكث هناك أكثر من أربع ساعات، وأشعر مع ذلك بالعطش، وأنتم تعملون مُعرَّضين للسَّمُوم – شدة الحر – ست ساعات، من الآن وصاعدًا لا تعملوا في رمضان أكثر من أربع ساعات في أول النهار، ولكم أجركم كاملاً”
في هذا الموقف دليل حي على رحمة الملك عبدالعزيز برعيته، وتفقُّده لأحوالهم، كما هو شأن القائد الموفَّق، هذه الرعاية التي كانت مستمرة وغير محددة بوقت أو مكان، هي التي جعلته يتوقف عند مشهد العمَّال منهمكين في عملهم دون أن يتمتعوا بقسط من الراحة، وهذا فهمه – رحمه الله – لحقوق العمال قبل أن تؤسس لها المحافل وتُقَرُّ بها المعاهدات الدولية.
هذه المواقف وغيرها تؤكد بالدليل القاطع عطف الملك وإشفاقه على الرعية، رحمه الله، هو الذي لم تمنعه الأعباء الجسيمة الملقاة على عاتقه يومًا من حسن تفقد أحوال رعيته، وكأن كل مواطن يلقى رعاية خاصة منه.