تشهد التقنية في عصرنا تحولاتٍ جذريةً لم يسبق لها مثيل من قبل، حتى صح وصفه بعصر “الثورة المعلوماتية” وذلك بسبب التقدم الهائل في مجال الاتصالات وأنظمة المعلومات الإلكترونية بصورة مذهلة شملت معظم نواحي الحياة. ولاشك بأن هذا التطور المتسارع قد أفادت منه الدول، وأسهم بشكل فعَّال في كشف وملاحقة شبكات منحرفة، كشبكات الجريمة المنظمة، وعصابات ترويج المخدرات العالمية، وغيرها، مستخدمة في ذلك تقنيات حديثة كتقنية البطاقات الذكية، وتقنية تحديد هوية الأشخاص بواسطة الكشف الضوئي على شبكية العين، أو من خلال بصمات اليد، أو نبرة الصوت، أو فحص الحمض النووي، إلى غير ذلك من التقنيات.
لقد كان لهذه التطورات التقنية الأثر الإيجابي الكبير في تحقيق الرفاهية للبشرية، إلا أن أثرها السلبي بات لا يستهان به، فقد أظهرت دراسات لباحثين أن عالم الجريمة – وبخاصة جرائم الإرهاب – قد أفاد بشكل ملفت من هذه التقنيات، فتزايدت أخطاره، واستشرت أضراره مهددة الأمن الوطني لكثير من الدول، حيث سخرت هذه التنظيمات كافة الوسائل المتقدمة لتحقيق مآربها الدنيئة وتعزيز أنشطتها الرامية إلى تقويض المجتمعات والنيل من استقرارها، حيث منحتها وسائل الاتصال المتقدمة مرونة أكبر في تدفق سيل المعلومات، وتبادل الأفكار، ونشر البيانات، وتلقي التوجيهات، وإعطاء التعليمات لكافة أعضاء الشبكة حيثما وجدوا من أنحاء العالم.
حتى إن بعض تلك المنظمات باتت توجه قدراتها لحرب متوقعة معتمدة ابتداءً وانتهاءً على هذه الأنظمة الحديثة، ما يدفعنا للقول بأن اعتماد بعض المجتمعات على التقنية الرقمية في مختلف أنشطتها قد تسبب في ثغرات أمنية خطيرة بما ينذر بظهور تحديات هائلة من خلال استغلال تلك الجماعات بل والأفراد لهذه النظم.
ناهيك عن سهولة الحصول على تلك التقنية نظراً للانخفاض المطَّرد في أسعارها بما يتيح امتلاكها وتسخيرها في عنصر السرية والسرعة في التواصل الذي تعتمده تلك التنظيمات، وأدهى من ذلك كله السهولة البالغة في التواصل مع جمهور الناس من خلال تلك الوسائل، بما يحقق رغبة هؤلاء المنحرفين في تهيئة حالة عامة من الرعب توهم المجتمع بقدرة تلك الشبكات على ضرب الهدف الذي تريد في الوقت الذي تختار!!
ولابد من الإشارة هنا إلى أن الآثار المترتبة على تخريب هؤلاء لبعض شبكات المعلومات الوطنية العسكرية والاقتصادية وغيرها، هي أكبر بكثير من تلك الآثار الناجمة عن تنفيذ بعض العمليات الإرهابية المباشرة على مقارِّ حكومية، وهنا تظهر خطورة حوسبة البنى التحتية لدولة ما، حيث لا يكون هؤلاء مضطرين لمواجهة احتياطات تتخذ عادة لتوفر حماية عالية للأهداف والمنشآت الحيوية، خاصة إذا علمنا أن بعض تلك الشبكات تمتلك خبرات متقدمة في حقل التكنولوجيا المتطورة، بما يلقي مزيداً من الصعوبة الملقاة على كاهل الأجهزة المعنية بمكافحة الإرهاب والجريمة المنظمة، ويدعوها بإلحاح إلى ابتكار حلول متقدمة لهذه المعضلة بما يفوِّت على هؤلاء تحقيق أهدافهم المتوخاة.
لكن ذلك – مع أهميته البالغة – قد لا يكون كافياً إلا إذا اقترن بغرس وازع الإيمان لدى أفراد المجتمعات، فالإيمان هو أمان للأوطان كما هو أمان للأفراد، هذا الإيمان الذي يدعو إلى مزيد من رصِّ الصف والمودة والتكافل بل والإبداع في العمل والإنتاج، إنه الوصفة العجيبة التي تجعل من أصاب حداً يطلب إقامته عليه، بل ويصرّ على ذلك، إنه عطف الغني على الفقير، وحنّو القوي على الضعيف، إنه الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر والتناصح لخير الوطن، يعرف كل مؤمن ما عليه فيؤديه، وما له فلا يطالب بأكثر منه.
إن التوقي من الجريمة والإفساد في الأرض وتنقية المجتمع بزرع أسس الفضائل فيه، هو أجدى بكثير من انتظار وقوع المآسي ومن ثمَّ معالجة آثارها وفرض العقوبات على الآثمين، وهنا دعوة إلى مزيد من التحصين في الصف الوطني، والتوعية الإيمانية الصادقة، بما يدعو العلماء العاملين والدعاة المصلحين، إلى مضاعفة الجهد الخيِّر، وبما يثقل كاهل المربين والآباء والمدرسين، بالعمل على تكامل التربية الإيمانية والوطنية في المنزل والمدرسة والمجتمع، فلو أننا رسّخنا مفهوم التبرؤ ممن يحمل السلاح على الأمة مثلاً، وأنه من الإثم العظيم ضرب رقاب المسلمين بعضهم بعضاً، وأنه من الحُوب الكبير خفر ذمة المستأمنين، وقتل المعاهَدين، كما أعلمناهم بأن من أعظم نعم الله على الأمة توادّ أهلها وتراحمهم، وأن يسعى كلهم في ذمة أدناهم.
لو رسّخنا هذه المفاهيم السامية لنعمت المجتمعات ابتداء بالأمن والأمان ولا حاجة لنا بعدها إلا إلى مزيد من العمل والإنتاج رفعة لوطننا ومنعة له.